29 مايو ، الذكرى الثانية لرحيل المجاهد عبد الرحمان اليوسفي

عبد السلام المساوي

المقاوم الرمز….الوطنية هي العنوان والشموخ سيد الميدان…
فجأة رحلت ….هل تعبت ؟! أنت طلقت التعب يوم ولدت …أنت لم تشك التعب ابدا …رحلت وتركتك أهلك ، إخوانك ، اصدقاءك…الصدمة كبيرة والفاجعة اكبر…
الرجال لا يموتون …العظماء لا يموتون…
نعم لم تمت ولكن ساهمت في اقتلاع الموت من وطننا …ساهمت في التحرير والإستقلال …في الحرية والبناء …ساهمت في شق الطريق ، توضيح الرؤية وبناء المسار…
لما نطقت ..لما بدأت الكلام ؛ قلت ” لا ” …لا للإستعمار …لا للذل والهوان …لا للقمع والاستبداد…لا للعار والخذلان …لا للنفاق والكتمان …لا للخيانة والنسيان …
قلت لا للموت …أمثالك لا يموتون …أحياء في التاريخ بل التاريخ حي بهم
رحلت بيولوجيا لتفرض حضورا أقوى …فأنت الحضور ، بالأمس واليوم وغدا …
وجودك كان له معنى …لم تأت إلى هذا العالم زائرا …لم تكن مؤقتا …بل أتيت فاعلا وخالدا …إنك مقاوم …إنك مجاهد… وطني أصيل …
أعلم أنك قد اختفيت لكنك لم تمت
هل نبكيك ؟! وهل البكاء قادر على إطفاء النار التي اشتعل لهيبها في كياننا لحظة علمنا بخبر رحيلك عنا ….لا …لن نبكي لأنك لم تنته بل بدأت …كنت البداية دائما …ستستمر …ستخلد…ستستمر في كل من يؤمن بالمغرب بلدا حرا وناميا…ديموقراطيا وحداثيا…في كل من عرف أنك كنت تزرع الورد والإبتسامة …
بعدك يتعطل البكاء … لا نودعك ونبكيك ، بل نقدر ونعتبر الخسارة الكبرى التي لحقت الوطن ….


أعرف أنك قد اختفيت ولكنك لم تمت
نعم لم ولن تموت …تغنيت بالحياة …تغنيت بالحرية وعلمتها لنا أغنية حلوة وجميلة …سنحلم ونحلم ..وطني وطن الجميع …وطن الكرامة والعدالة …
أعلم انك قد اختفيت لكنك لم تمت
أعلم أنك قد اختفيت لكنك لم تمت
مسار مكتوب بالعذاب والألم …. لكنه موشوم بالعزيمة
القوية …موشوم بالصمود والصلابة…
أعلم أنك قد اختفيت لكنك لم تمت
تاريخ غني وحي ….مسار شاق وعسير …وطني ومواطن…مناضل ديموقراطي…اتحادي اشتراكي…كلمة واحدة في حقك أيها المجاهد وأصير ملقحا ضد كل نزلات الخيانة والانحراف…فالرجل أنت والصدق فيك …والنبل ولد معك…إنك وطني مقاوم …انك اتحادي اصيل…
اعلم انك قد اختفيت لكنك لم تمت
“ما هموني غير رجال إلا ضاعوا ….” لا ثم مليون لا ، الرجال لا يضيعون …الرجال لا يموتون …


وأخيرا رحلت ، رحلت عنا ، رحلت فجأة …لن نبكيك …فأنت علمتنا الامل والتفاؤل….علمتنا كيف نحيا …علمتنا الصمود والكبرياء لنعيش ” منتصبي القامة مرفوعي الهامة “…
نم مطمئنا يا عبد الرحمان ، المغرب ينمو ويتقدم مستلهما قيم الوطنيين والمقاومين …المغرب بخير بفضل نضالاتكم وتضحياتكم
” السلام عليك يوم ولدت …ويوم قاومت..ويوم تبعث حيا ”
المناضل الرمز
البحث في سيرة عبد الرحمان اليوسفي يحيل مباشرة إلى البحث أيضا في تاريخ المغرب الحديث ، ويكشف عن التناقضات غير المفهومة التي أفرزتها البلاد طيلة هذه المدة ، فهو الذي قاوم الاستعمار وانخرط في صفوف معركة البناء الى جانب الراحل محمد الخامس رحمه الله ، ثم قاد بمعية كل من عبد الله ابراهيم والمهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وغيرهم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اكبر حزب معارض في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال ، وهو الذي جر عليه الكثير من المتاعب والمحن والاعتقال والحكم الغيابي بالاعدام لأكثر من مرة…
الشرعية الوطنية والتاريخية
ينتمي عبد الرحمان اليوسفي الى جيل ” الحركة الوطنية ” الذي رسم ولا زال يرسم الى اليوم علامات وضاءة ليس من السهل أن يأتي الزمان بها ، فهو جيل القيمة والقوة الفاعلة الذي حقق معه المغرب الشيء الكثير ، بل إن المغرب قد ضيع فرصة الاستفادة من قوة ذلك الفريق ،على اعتبار أن حصيلة ما تحقق اليوم ، هي دون الذي كانت تعده به امكانات وقدرات تلك النخبة المناضلة…
من هذا الجيل الوطني اذن ،الذي كان يضم شخصيات متعددة المشارب والاتجاهات والتصورات ، يستمد عبد الرحمان اليوسفي ، وسائله واغراضه وأدواته السياسية ، فالرجل يختزل مرحلة كاملة من تاريخ المغرب ، فهو السياسي العربي والحقوقي والزعيم المغربي الوحيد الذي قام بمحاولة إصلاح للمشهد السياسي ببلادنا ، وفي نفس الان العمل على إصلاح أجهزة السلطة والادارة المغربية ، وهو المشروع الذي ما زال متواصلا ، من خلال القوانين التي صدرت عن قبة البرلمان ، والنقاش المفتوح حول إعادة آلية التدبير في الدولة وفي المجتمع …دون إسقاط القوانين التي تلاحقت المصادقة عليها من قبل ممثلي الأمة ، مثل مدونة الشغل ومدونة الأسرة وقانون الأحزاب الجديد والزامية التغطية الصحية للمغاربة وغيرها .
لقد وعى اليوسفي على أسرة ترعرعت في مدرسة سياسية وطنية ، انها ” مدرسة الحركة الوطنية ” ، التي تركت للتاريخ واحدة من أجمل واحسن التجارب النضالية ، هي تجربة ” ثورة الملك والشعب ” ، الثورة التي خط بها أحرار المغرب بزعامة الراحل محمد الخامس ، معنى لنضال الدولة والشعب ، من أجل مطلبين فقط هما الحرية والاستقلال ، ثم الديموقراطية والحداثة ، وهما المطلبان الذين تم تضمينهما في وثيقة 11يناير 1944 , التي تعتبر ميثاقا وطنيا بين الحركة الوطنية ومحمد الخامس ، وبرنامج عمل وطني وسياسي مغربي محض ، مما أثار حنق الامبريالية التي كانت ممثلة في كل من فرنسا واسبانيا ومهد للمواجهة التي قادت إلى شن اعتقالات وإعدامات ونفي في حق الوطنيين ، ثم عزل الملك محمد الخامس عن السلطة ونفيه الى جزيرة كورسيكا ثم مدغشقر .


وثيقة الاستقلال
عبد الرحمان اليوسفي الذي شرع في سن مبكرة في الاعداد لتقديم وثيقة الاستقلال ، بعد أن توزعت بلاده عقب مؤتمر الجزيرة الخضراء ، بين كل من فرنسا واسبانيا ، فيما تم منح مدينة طنجة لتحالف دولي يضم مجموعة من الدول الاستعمارية ، بسبب الموقع الاستراتيجي الهام لميناء المدينة ، المطل على مضيق جبل طارق .
وقبل أن ينتقل إلى الرباط ليتابع تعليمه بثانوية مولاي يوسف كتلميذ داخلي ، عمل على تشكيل خلية نضالية كانت لها علاقة وتنسيق بخلية اخرى هي خلية المدرسة المولوية المحاذية ، وهو ما جر على اليوسفي متاعب كثيرة ومطاردات من قبل السلطات الفرنسية الاستعمارية ، كما هو حال رفيقه المناضل المهدي بنبركة .
وأثناء البحث عنه لاعتقاله ، ألتجأ اليوسفي الى منزل شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي ، قبل أن يغادره وظل يتنقل بين مدينتي آسفي ومراكش لمواصلة عمله النضالي ، وذلك قبل أن يستقر بمدينة الدار البيضاء ليوجه في السر خلايا المقاومة ، وخلايا العمل النقابي ، خاصة بحي كوزيمار الصناعي بالحي المحمدي بالدار البيضاء سنة 1949 , وايضا ليؤسس لمدرسة الاتحاد الحرة ، التي كانت واحدة من المدارس التي أسسها الوطنيون المغاربة لمواجهة التعليم النظامي الفرنسي ، وكان منهج التدريس في تلك المدارس الحرة مسايرا للتطورات العلمية والتربوية والتعليمية في العالم حينذاك ، مما جعل أمر تحويلها إلى مدارس حكومية نظامية بعد الاستقلال امرا يسيرا ومنتجا ، وقد كان اليوسفي مع رفاقه في حزب الاستقلال آنذاك ، مثل الفقيه البصري والمهدي بنبركة وعلال الفاسي وأحمد بلافريج من مهندسي هذا الاختيار الذكي ، وهو الاختيار الذي تكامل مع اختيار وطني اخر ، يتمثل في تأسيس العصبة الوطنية لكرة القدم ، التي تضم فرق الأحياء وهي النواة الاولى للبطولة الوطنية ، ضدا على البطولة الفرنسية ، ووضعوا لها قانونها التنظيمي بما يتوافق وقوانين الفيفا ، وفي هذا السياق تأسست فرق خالدة مثل فريقي الوداد والرجاء البيضاويين ، وكذا فريق الاتحاد البيضاوي لكرة القدم الذي يعود تأسيسه الى سنة 1950 على يد عبد الرحمان اليوسفي نفسه ، دون أن ننسى فريق مولودية بوطويل بالمدينة القديمة بالدار البيضاء الذي أسسه الشهيد الزرقطوني ، زعيم المقاومة الوطنية .


قائد التناوب
يمكن القول أن عبد الرحمان اليوسفي ، قد غامر عندما بالمشاركة في حكومة التناوب ، وقد عزا الكثيرون سبب مشاركته الى وطنيته الصادقة التي تدفعه من أجل إنقاذ المغرب من ” السكتة القلبية ” ، وكيف لا وهو الذي خاض صراعا مريرا مع الحكم المركزي في سبيل مغرب يؤطره الحق والقانون والعدالة الاجتماعية ….
ولذلك كانت اول خطوة قام بها هي إقناع أعضاء الحزب بالانخراط في منظور التناوب التوافقي رغم المعارضة الشديدة لهذا الاتجاه لا سيما وأن تاريخ الحزب ظل مطبوعا بالمواجهات بينه وبين المخزن طيلة الأربعة عقود الماضية .
ومن ثمة كان اليوسفي هو اول معارض سياسي كبير في تاريخ المغرب الحديث ، يقود حكومة مشروطة بوضعية سياسية معقدة جعلت قطبا يساريا مهما يمارس الحكم والسلطة مع حلفائه الى جانب الملك ضمن ميثاق مشترك غير مكتوب ، ولأول مرة ايضا يتم النهوض بإصلاح أجهزة الدولة عبر إخراج ترسانة جديدة من النصوص القانونية والتنظيمية ، ويتم التراضي حول الخطوط التي ينبغي أن تتحرك ضمنها الحريات والحقوق بما فيها حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة وتاسيس الاحزاب والجمعيات ، مع الدعوة في كل وقت وحين الى تخليق الحياة العامة والتقليص من صلاحيات بعض الأجهزة الإدارية للدولة مثل وزارة الداخلية وغيرها .
ويحسب لليوسفي قدرته على التحكم والسيطرة على عالم المتناقضات ، ولذلك استطاع أن يسير بحكومة تضم الى جانب وزراء اتحاديين ويساريين ووزراء لهم انتماءات سياسية أخرى وآخرين يطلقون على انفسهم وزراء السيادة …
كما يحسب لليوسفي انه اول من حرك دعوى قضائية ضد مجهول في ملف بنبركة ، على إثر التصريحات التي صدرت عن العميل السابق في جهاز ” الكاب 1 ” ,احمد البخاري الذي اتهم المخابرات المغربية بالضلوع في مقتل الشهيد بن بركة وتذويب جثمانه في حامض ” الاسيد ” في معتقل دار المقري المخيف….


مسار اليوسفي مسار بلد بأكمله
ولد عبد الرحمان اليوسفي في 8 مارس من سنة 1924 في مدينة البوغاز طنجة
حصل على شهادة الاجازة في القانون ودبلوم المعهد الدولي لحقوق الانسان
احترف مهنة المحاماة لدى محاكم طنجة من سنة 1952 إلى سنة 1960 , شغل خلالها منصب عميد لسلك المحاماة في طنجة سنة 1958 , ثم كاتبا عاما مساعدا لاتحاد المحامين العرب من سنة 1969 إلى سنة 1990 .
انخرط اليوسفي في صفوف العمل السياسي وبالضبط في حزب الاستقلال منذ سنة 1943 , وكان مؤسسي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية / الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
تعرض للاعتقال والسجن والنفي …وأصبح وجها بارزا واساسيا من وجوه المعارضة السياسية في المغرب ..
شغل من سنة 1959 الى 1967 منصب رئيس تحرير جريدة ” التحرير ” الصادرة عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية التي كان يديرها الراحل الفقيه البصري ، ثم مندوبا دائما للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الخارج منذ تأسيس الحزب سنة 1975 , وهو عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي منذ مؤتمره الوطني الثالث المنعقد سنة 1978 , فكاتبا اولا للاتحاد الاشتراكي منذ رحيل القائد التاريخي سي عبد الرحيم بوعبيد في 8 يناير من سنة 1992
كرس عمله من 1944 إلى 1949 لتنظيم طبقة العمال بالدار البيضاء ، ليتحول وانطلاقا من سنة 1949 إلى 1952 لخدمة العمالة المغربية المهاجرة في فرنسا
شارك في تنظيم وإدارة حركة المقاومة وجيش التحرير بعد عزل الفرنسيين للملك محمد الخامس من سنة 1953 الى سنة 1956 ,واسس مع المهدي بنبركة والفقيه البصري والمحجوب بنصديق وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله ابراهيم ، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد انتفاضة 1959
اعتقل في دجنبر من نفس السنة مع الفقيه البصري مدير جريدة ” التحرير ” بتهمة التحريض على العنف والنيل من الأمن الوطني للدولة والأمن العام ،ثم أفرج عنه ، ثم اعتقل مرة أخرى في يوليوز 1963 مع جميع اعضاء اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بتهمة التآمر ، وصدر عنه حكم بالسجن مدة سنتين مع وقف التنفيذ ، وقد تم العفو عنه سنة 1965 .


توجه عبد الرحمان اليوسفي في نوفمبر 1965 إلى باريس للادلاء بشهادته كطرف مدني في محاكمة مختطفي المهدي بنبركة وبقي منذ ذلك الوقت في فرنسا لمدة 15 سنة مختارا النفي ،حكم عليه غيابيا في جلسات محاكم مراكش ( 1969 – 1975 ) وطالب المدعي العام بإصدار حكم بالاعدام على اليوسفي ، ثم صدر حكم بالعفو عنه في 20 غشت من سنة 1980 وعاد إلى المغرب في أكتوبر من نفس السنة
استقال عبد الرحمان اليوسفي من وظائفه السياسية بعد صور نتائج الانتخابات التشريعية سنة 1993 احتجاجا على ما وقع فيها من تلاعب وتزوير ، ذهب إلى فرنسا في شتنبر من سنة 1993 , ثم عاد بضغط من الاتحاديات والاتحاديين …
في فبراير من سنة 1998 عين وزيرا اولا ، قائدا لحكومة التناوب التوافقي ومنقذا للبلاد من السكتة القلبية …واستمر في مهامه الى حدود نونبر من سنة 2002 , حيث قرر مرة أخرى عزمه على اعتزال عالم السياسة بعد الخروج عن المنهجيةالديموقراطية…
يوم 7 دجنبر 2018، حدث كبير وعظيم ، حضور القائد التاريخي المجاهد عبد الرحمان اليوسفي الى وجدة ، وللمكان
رمزيته ، فوجدة عاصمة مغاربية بحكم الجغرافيا والتاريخ …
يوم 7 دجنبر ، عبد الرحمان اليوسفي يطلق نداء تاريخيا للمصالحة مع الجزائر في مهرجان بعنوان ( المغرب والجزائر قاطرة بناء المستقبل المغاربي ) مهرجان ، الهدف منه طي الخلافات ، وفتح صفحة جديدة أساسها العلاقات القوية بين الشعبين ؛ المغربي والجزائري ، انسجاما مع الدعوة التي وجهها جلالة الملك محمد السادس للجزائر من أجل التطبيع الحقيقي للعلاقات ، بدءا بفتح الحدود المغلقة في وجه الشعبين الشقيقين…
عبد الرحمان اليوسفي في وجدة لخدمة قضية كبرى ، قضية وطنية ومغاربية….عبد الرحمان اليوسفي قائد كبير ، والكبار لاينشغلون الا بالقضايا الكبرى ، بالقضايا المصيرية….لا تستنزفهم صغار الأمور …مصلحة الوطن اولا ( على قدر أهل العزم تأتي العزائم…..وتعظم في عين الصغير صغارها …وتصغر في عين العظيم العظائم ”
ويوم الأربعاء 31 يوليوز 2018 عاش المغاربة لحظة استثنائية ، لحظة بعناوين انسانية ، رفعة مناضل وسمو ملك ، لوحة بقيم انسانية رفيعة ؛ الصدق والاخلاص ، الوفاء والمبدأ ، الاعتراف والتقدير …الملك الوطني المواطن يكرم الزعيم الوطني ؛ المجاهد عبد الرحمان اليوسفي ….