العزف المنفرد في العلاقات بين الرجل والمرأة

ما بين الانجذاب والاختلاف، الاحتياج إلى الآخر وعدم فهمه، تبدو علاقة الرجل والمرأة محيرة وغير مفهومة. ففى إطار بحث كل منهما عن الوليف والسكن مع احتفاظهما بخصوصيتهما ضلا الطريق إلى السعادة المشتركة فى إطار يحفظ كيان الأسرة. وأود هنا أن أطرح مجرد احتمال أن التيه الذى يعيشه مجتمعنا سببه عدم فهمنا لخصوصيات الجنس الآخر وعدم إدراكنا أن بداخل كل منا خصائص من الجنسين وهذا الإدراك يجعلنا أكثر فهمًا واحترامًا للجنس الآخر. هذه الخواص ضرورية لتوازن الشخص والأسرة والمجتمع، تركيزنا على سلبيات الجنس الآخر واستخفافنا أو غضبنا من صفاته بدلا من فهمها وتقدير أهميتها يعرقل فرصنا لإيجاد لغة واحدة تسمح بالتواصل بين الرجل والمرأة.

إذا أدركنا أن بداخلنا مصدرين للطاقة وأنهما ليسا متعارضين بل بالعكس هما متوازيان، نولد بهما سواء كنا نساء أم رجال، كأنهما آلتان تعزفان لحنا فيه تناغم، إحداهما طاقة «ذكورية» والأخرى «أنثوية»، إعلاء صوت فيهما لا يعنى بالضرورة انخفاض نبرة الصوت الآخر، فالصوتان يذكراننا بقيم مختلفة وليست متضادة.

الطاقة «الذكورية» هى صوت «القوة» بداخلنا، وظيفته الحفاظ على «الأنا»، أى كل ما يجعلنا متفردين، هى الطاقة التى تشجعنا على الحركة والتنافس تعطينا الشجاعة والثقة بالنفس والقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة. ضعف الطاقة الذكورية عند الرجل أو المرأة يجعل الفرد مترددا قليل الثقة بقدراته يفرط فى حقوقه ويفشل فى تحقيق أحلامه. جميعا نمتلك هذه الطاقة لكن هناك عوامل خارجية تظهرها أو تخفيها، فعندما نتربى على التمكين ويزرع والدونا فينا الثقة نقويها، فمثلا عندما تكسب الفتاة أو الفتى مباراة رياضية أو تكافأ هى على تفوقها العلمى أو يكرم هو على نبوغه الفنى، فنحن نقوى هذه الطاقة. وكلما طلبنا من طفل قيادة فصله أو فريقه فنحن فى الحقيقة نقول لها أو له «استمعى إلى الصوت الذكورى بداخلك» صوت «القوة».

«الطاقة الأنثوية» خط موازٍ، منبعها «الخير والكرم» بداخلنا، الصوت الذى يذكرنا «بالآخر». هذا الصوت يذكرنا بأهمية الآخر وحقه علينا، هى التى تحمينا من الأنانية والتصادم مع الآخرين، هى طاقة الحب غير المشروط التى تجذب الآخر نحونا وتجعله يرتاح إلى صحبتنا لأنه يدرك أننا نقبله. انخفاض هذا الصوت بداخلنا يخلق منا أفرادا غير متعاطفين ويجعلنا أكثر قسوة وشرها وبخلا وأنانية، فلا نسعى للعلاقات ولا نجذب إلينا الأصدقاء، ونكون أقل رغبة فى رؤية عيوبنا ومواجهتها أو إصلاحها فنلقى باللوم على الآخرين إذا ما وقعنا فى أخطاء أو مشكلات. عندما نُعطى فى طفولتنا عروسة أو دُب لعبة أو قطة أو كلب فنحن ــ بنات وبنين ــ نتعلم الاستماع إلى الصوت «الأنثوى» بداخلنا «صوت العطاء للغير» ونذوق متعة إسعاد الآخر حتى نثمنها فيما بعد.

***

تطورت المجتمعات بشكل فيه إعلاء «القوة» بسبب الحروب سعيا لكسب الأرض، أو البيزنس لكسب المال، أو التكنولوجيا لكسب السلطة والسيطرة، وظهور المجتمعات «الأبوية» التى يوفر فيها «الأب» أو «القائد» الأمن والمال مقابل التبعية، انخفضت قيمة «العطاء» وكبتنا الصوت «الأنثوى» بداخلنا أفرادا ومجتمعات. انفصل المجتمع إلى عالم الرجل الذى يعمل ويحارب وعالم المرأة الراعية للأسرة والعاملة فى المجتمع تحت قيادة الرجل، فزادت الفجوة بينهما وصعب فهمهما للجنس الآخر، فزادت روح المنافسة فى المجتمع وانتشرت الحروب بين الدول والظلم فى توزيع الثروات وقهر الحقوق.
أدى هذا الاختلال أيضا إلى اختلال التوازن داخل التكوين الأسرى، فأدت تربيتنا للذكور إلى تركيز كبير للرجل على حقه فى تحقيق حلمه سواء المهنى أو المادى أو تحقيق متعته، وقلل من عطائه من نفسه ومن وقته ومن مشاعره لأسرته. المرأة فى العموم لارتباطها بحكم وظائفها البيولوجية بأبنائها لم تفقد قدرتها ورغبتها فى العطاء بنفس القدر، لكنها اكتسبت صفات كثيرة ذكورية إيجابية ساعدتها فى خوض مجالات الحياة المختلفة وهو ما جعل الطاقتين بداخلها أكثر توازنا.
أصبحت النساء أقل رضا بمساهمة الرجل فى الحياة الزوجية، وأصبح احتياجهن للرجل المعطاء الشريك والصديق والسند أكبر كثيرا من الرجل ذى القوة والمال. أدى إعلاء الاستثمار المادى فى العلاقة الزوجية على الاستثمار الأدبى من وقت وجهد ومشاعر وعمر ــ بالرغم أن المنزل بدونهم لا يكون بيتا ولا سكنا وإنما مكان إيواء ــ إلى ظلم كبير للرجل وليس فقط للمرأة، فكثير من الرجال لا يحسون أن البيت مكانهم بقدر ما هو «مملكة الزوجةس، وبالرغم من رومانسية هذا المفهوم وجاذبيته للمرأة خصوصا الأقل تحقيقا لذاتها خارج بيتها، وللرجل خصوصا أن هذا المفهوم يجد له مخرج نفسى واجتماعى لإيجاد حياة له خارج البيت، إلا أنه يدفع ثمنه فى مراحل لاحقة من حياته عندما تصبح قدرته ورغبته فى أن يطير أقل. والطاقتان تلعبان دورا فى العلاقة الحميمة بين الزوجين، ومطلوبة لدى الطرفين حيث إن الطاقة الذكورية هى التى تولد الرغبة فى حين أن الطاقة الأنثوية تدفع الزوجين إلى إمتاع الآخر، بدون الطاقتين لدى الطرفين ينتج عدم رضا وعدم إشباع فى علاقتهما الحميمة.

***

دخلت المرأة عالم السياسة والبيزنس، ووجدت أن فرصها فى النجاح مرتبطة بتنمية طاقتها الذكورية، فتبنت بعض النساء نفس صفات زملائهن من الرجال وتنازلن عن صفاتهن الأنثوية، فشاهدنا نساء شديدة القسوة والغشم مثل مارجريت تاتشر وانديرا غاندى وجولدا مائير، نجحن بجدارة فى مجالهن، لكنهن لم يساعدن إطلاقا فى عمل توازن فى العالم بل ساهمن فى نشر ظلم وسفك دماء أكبر، وهن دليل عملى على أن الطاقة الأنثوية والذكورية غير مرتبطة بالكروموزومات والهرمونات فقط وإنما على الصوت الذى نختار أن نسمعه بداخل كل منا. ونساء أخريات مثل أنجيلا ميركل هن مثال رائع للمرأة التى احتفظت بصفاتها الأنثوية فى الحفاظ على الآخر (مثل بسيط موقفها السياسى من اللاجئين السوريين)، وبين صفاتها الذكورية من قدرات قيادية اختيرت على خلفيتها أربع مرات لقيادة أكبر اقتصاد أوروبى، ميركل مثل هام لإيجابيات تمثيل المرأة فى الحياة العملية والسياسية والاقتصاد، فألمانيا مثلها مثل الدول الإسكندنافية استطاعت أن تخلق مجتمعا أكثر رحمة وإنسانية وعدلا عندما اجتهدت ووضعت قوانين لضمان تمثيل المرأة بنسبة مؤثرة فى كل دوائر اتخاذ القرار فاستفاد المجتمع من طاقتيه.

***

مع تطور دور المرأة فى الأسرة لم يعد مقياس نجاحها فى حياتها الشخصية هو مجرد «الاستمرار» فى مؤسسة الزواج بمفهوم الحفاظ على مبيت الزوج فى بيته أو تحمله المسئولية المادية لأسرته. فالأسرة بالنسبة لمعظم النساء ما زالت أكبر استثمار فى حياتهن، إلا أن أحلام المرأة لهذا الاستثمار تطورت، وأصبحت تطمح إلى علاقة أقرب إلى الشراكة، أقرب إلى «الرحمة والمودة والعشرة الحلوة والسند»، لم يعد كافيا ألا يضربها زوجها ولا أن يؤَمنها ماديا، فهى تريد أن يقدرها «كامرأة وكإنسان». كما أن حلم الزواج التقليدى بالنسبة للرجل لم يعد يكفيه، فما نراه من نماذج لأزواج كثر يعيشون حياة منفصلة موازية لحياتهم الزوجية ما بين زملاء العمل والأصدقاء يوحى بأن حلم البيت المستقر والأطفال الذين تربيهم زوجته بالإنابة عنه لم يعد يشبعه إنسانيا، وأن علاقته بأبنائه المبنية على لحظات قصيرة من لعب لطيف عندما تسمح الظروف، أو تدخل لحظى كقاض يحل المشاكل، ليست كافية لبناء رابط قوى بين الأب وأبنائه. إن صورة الأب القوى المهاب هى فى الحقيقة تجسيد لإنسان محروم من أهم متعة يُنعم الله علينا بها وهى علاقتنا بأبنائنا، هى لا تأتى بالنسب وإنما بسنوات من التواصل والاحتكاك فى الأمور اليومية البسيطة، مثل أن نحضر لهم الطعام، ونلح أن ينجزوا واجباتهم، ننتظرهم ساعات أمام تدريباتهم فنرى جانبا مختلفا منهم، نراهم وهم مهزومون أو منتصرون، نكون جزءا من عالم أصدقائهم، كلها لحظات «مشاركة» أثمن من أى مصاريف مدرسة أو موبايل أو رحلة نوفرها لهم، مثلها مثل «مشاركة» الزوج والزوجة للحظات فرحهما وهمهما واهتماماتهما، وهى أيضا أقوى فى ربطهما ببعض عن أى هدية أو طبخة أو مصروف منزلى. هذا الإشباع الإنسانى يُحرم منه الزوج والزوجة بسبب الصورة النمطية المفروضة عليهما والتى تمنعهما من التوازن بين صفاتهما الذكورية والأنثوية، وهى تسبب الكثير من عدم الرضا وتدفعهما إلى إيجاد إشباع إنسانى ومشاركة خارج مؤسسة الزواج.