هي امرأة ليست كباقي النساء، طلبت العلم وصقلت نفسها تحت أنامل علماء وفقهاء، أخذت من كل فن طرب وجمعت بين الحكمة البالغة وسداد الرأي، بخطى ثابتة وبنظرة ثاقبة حكمت مدينة كانت تحيط بها شرور الأطماع من كل ركن وزاوية، بجَلَّها المسلمون حتى أطلقو عليها “أميرة الجهاد البحري” وهابها الإسبان فلقبوها بـ”ملكة القراصنة”.
هي قصة “السيدة الحرة”، التي جار عليها التأريخ ولم يخط تفاصيل قصتها، لكن حتى وعلى بعد قرون من الزمن وصلتنا نفحات من هذا التاريخ، كيف لا وهي من حمت الثغور، فكانت ملكة شمال المغرب التي تروع البحار، وسيدة المتوسط التي بفضلها كتب فصل من تاريخ الدولة الوطاسية.
بالرغم من ندرة المصادر والمراجع التي تذكر “السيدة الحرة”، إلا أن المراجع الإسبانية والبرتغالية لم تكن ظالمة في حقها، بل أسهبت في نقل إنجازات هذه المرأة العظيمة، نظرا للعلاقة التي كانت تربط الإسبان بها وبقياد الأساطيل التي كانت تبحر في البوغاز.
تقول الباحثة المغربية المتخصصة في السرد الإسباني، دنيا الإدريسي:”إنه لَصَمْتٌ مجحفٌ ذاك الذي خصّها به سواء المؤرخون العرب أو الأجانب، ففي المصادر العربية لا نكاد نجد أخباراً عن هذه الملكة التي حكمت خلال 30 سنة من 1510 وحتى 1542 وهي السنة التي تمت فيها إقالتُها”.
وتعد “السيدة الحرة” من بين النساء اللواتي تركن بصمتهن في الذاكرة المغربية، حيث تشير بعض المراجع إلى أنها عائشة بنت علي بنموسى بن راشد، أمير وحاكم شفشاون خلال فترة حكم الدولة الوطاسية بالمغرب، كانت معروفة بذكائها الباهر وعلمها الغزير وحنكتها البالغة، حيث تتلمذت على يد أكبر الفقهاء والعلماء، ما جعلها تكون شخصية قوية مكنتها من تولي الحكم في فترة كانت فيها ولاية المرأة أمرا غير معهود.
ويؤكد الكاتب محمد داود في مؤلفه “تاريخ تطوان”، أن هذه السيدة لقبت بـ”الحرة” كتمييز لها، خاصة وأن أغلب الناس في تلك الفترة من التاريخ كانوا “يكثرون من التسرّي بالجواري”، وتشير مصادر أخرى إلى أنه لم يكن لقبا بل كان اسمها الحقيقي.
وفي هذا الجانب، تقول دنيا الإدريسي:” كانت السيدة الحرة، سليلة أسرة من الأندلسيين البارزين هم بنو رشيد، والذين شأنهم شأن آخرين اضطروا إلى الهروب إلى شمال إفريقيا أمام زحف الملوك الكاثوليكيين، السيدة الحرة هي بنت السلطان المجاهد علي بن راشد الذي تحول إلى أمير مستقل عن سلالة الوطَّاسيِّينَ في فاس، مؤسسا دُويلة بمدينة شفشاون، أما أمها فهي لالة زهرة فرناندث تلك المورسكية المعتنقة للإسلام والمتحدرة من منطقة ِخِيرْ دِي لَا فْرُونْتِيرَا (قَادِشَ). تربت السيدة الحرة على أيدي خيرة حكماء ومفكري مدينة تطوان”.
وفي سنة 1510، تزوجت “السيدة الحرة”، بمحمد المنظري حاكم مدينة تطوان وهي في سن الثامنة عشرة، وتبرز بعض المراجع التاريخية، أن هذا الزواج الذي استمر لمدة 9 سنوات، كان الهدف من ورائه تقوية التحالف بين إمارتي شفشاون وتطوان للتصدي للأطماع البرتغالية في مناطق شمال المغرب.
وفي هذا الصدد، أورد محمد داود في كتابه “تاريخ تطوان”، “تزوجت السيدة الحرة من القائد المنظري حاكم تطوان سنة 1510م، وكانت تتولى بعض شؤون المدينة في غياب زوجها وتنوب عنه في بعض القضايا لما كانت عليه من سداد الرأي وحسن التدبير، ولما توفي قبضت على زمام الحكم وارتضى الناس حكمها لما كانت عليه من الحزم وحسن السياسة”.
وفي سنة 1541، تزوجت “السيدة الحرة” بالسلطان أحمد الوطاسي في مدينة تطوان، عوض مدينة فاس عاصمة الدولة الوطاسية، وهو الأمر الذي اعتبره بعض المؤرخين خروجا عن العادات السلطانية، الذي يرجع إلى قوة شخصيتها.
سلم لها السلطان أحمد الوطاسي أمر مدينة تطوان كي تحكمها، وعاد هو إلى عاصمته ليدبر أمورها، وهو ما يوضح حسب بعض المؤرخين الخلفية السياسية للزواج، الذي كان يرمي إلى شد عضد الدولة الوطاسية وتقويتها من الشمال، خاصة بعد تأسيس الدولة السعدية في الجنوب.
وما إن تسلمت حكم مدينة تطوان، حتى بثت الرعب في قلوب الأطماع الإسبانية والبرتغالية، وبدأت تنال ثأرها منهم حيث شكلت جيش الجهاد البحري، حين تحالفت مع أمير البحار العثماني خير الدين بربوسا، الذي كان قد وصل صدى قوته إلى المغرب بعد أن ألحق هزائم مدوية بالجيوش الأوروبية، فوضعت يدها في يده واتفقا على تقسيم مناطق الجهاد بينهما، وتولت “السيدة الحرة” الجهاد في منطقة غرب المتوسط في حين قاد هو الحركة الجهادية في الشرق من جهة الجزائر.
وبفضل رجاحة عقلها وقيادتها المتبصرة، خطت هذه السيدة اسمها في صفحات ذاكرة هذه المملكة الخالدة، ليبقى بذلك اسم “السيدة الحرة” عنوان بسالة امرأة تحدت الأعراف والتقاليد، وحكمت مدينة بأكملها، وزرعت الخوف في قلوب ممالك كان يقال أنها “لا تغيب عنها الشمس” لتكون بذلك “أميرة الجهاد البحري”.