تاريخ المغرب يختزن على امتداده لقرون، بطولات لنساء عظيمات غيرن منحى التاريخ وكتبن فصوله الجديدة، وكتبن بحروف من ذهب حكاية مملكة خالدة، وحتى وإن كان التأريخ مجحفا في حقهن، إلا أن التاريخ لا ينسى من صنعه، ليسترجع ومضات من الماضي عن بصمتهن الراسخة في الذاكرة المغربية.
سحابة الرحمانية، هي إحدى النسوة التي بقيت قصصهن عالقة في القلب والذهن، هي قصة امرأة استطاعت بفطنتها وحسها الدبلوماسي السابق لعصرها، أن تفك خيوط الصراع حول عرش الدولة السعدية وتقود عجلاتها نحو الازدهار.
هي إحدى زوجات السلطان السعدي محمد الشيخ، أنجبت منه مجموعة من الأمراء، منهم الأمير عبد الملك، بطل معركة وادي المخازن الشهيرة، وكان اسمها دائما لصيقا بحدث لجوئها هي وابنها عبد الملك وأحمد إلى الأتراك الذين كانوا يحكمون الجزائر في تلك الفترة، بغية استرجاع حق ابنها في كرسي العرش.
لجأت سحابة الرحمانية إلى “الصدر الأعظم”، طالبة المساعدة خاصة بعدما استولى على الحكم محمد الملقب ب”المتوكل”، وهو ما يتعارض مع التقاليد التي تفرض أن يؤول الحكم إلى الأخ الأكبر سنا.
وفي هذه الفترة العصيبة، برزت حنكة سحابة الرحمانية التي لم تنصهر في عمق التقاليد التركية، بل لعبت دورا أساسيا خلال فترة مكوثها في المنفى في تربية الأميرين وتلقينهما تعاليم الثقافة المغربية الأصيلة.
يفيد كتاب عبد الله كنون، بعنوان “موسوعة رجال المغرب”، أن عبد الملك بعدما فر إلى الجزائر التجأ وأمه إلى اسطنبول، واستقرا فيها تحت حكم السلطان سليم الثاني.
مهما كان اسمها في كتب التاريخ، سحابة الرحمانية أو مسعودة الوزكيتية، إلا أنها أحدثت منعطفا غير مجرى التاريخ وخلد اسمها كامرأة تميزت الفطنة وبعد النظر، وتجلت قوة فراستها حين كانت أول من يبشر السلطان مراد الثالث بخبر نجاح قوات “الباب العالي” في فتح تونس في سنة 1574، فاستغلت الموقف لصالحها وطلبت منه مدا عسكريا لمساعدة ابنها على استرجاع حقه المشروع في الخلافة.
قوبل طلب هذه السيدة العظيمة بالاستجابة، فأمر السلطان بمد الأميرين بكل ما يحتاجانه، ويقول كتاب كنون في هذا الصدد: “وهكذا أدت هذه السيدة مهمتها كما يجب وسجلت اسمها في تاريخ المغرب، وقد كانت من أهم العوامل في نجاح قضية ابنها”.
وفي كتاب “الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى”، يقول خالد الناصري: “أقبل عليهما السلطان سليم وأعطاهما مالاً وسلاحاً وزاداً وكتب لهما فرمانا للدولاتي صاحب الجزائر ليبعث معهما خمسة آلاف من عسكر الترك تطأ معهما أرض المغرب الأقصى…ثم نهض عبد الملك وأخوه إلى المغرب يجران عساكر الترك خلفهما وكتب عبد الملك إلى شيعته بالمغرب يعرفهم قدومه ويعدهم ويمنيهم إلى أن كان من أمره ما كان”.
وتمكنا بفضل مساعدة السلطان من دخول المغرب سنة 1576، وخوض حروب على السلطة ضد ابن أخيهما التي تطورت إلى حرب مع البرتغال قادها الملك سيباستيان، حيث أن “المتوكل” لم يستسلم وظل يحاول هو وزوجته “بياتريس” استرجاع الحكم مستعينين بملك البرتغال، الأمر الذي مهد لأعظم معركة لا يزال صداها مسموعا من عمق التاريخ، وهي معركة “وادي المخازن” في سنة 1578، والتي يطلق عليها أيضا معركة “الملوك الثلاثة”، التي جرت في مدينة القصر الكبير، والتي منيت فيها الإمبراطورية البرتغالية بهزيمة مدوية أفقدتها وهجها وسيادتها آنذاك.
وبهذا تكون سحابة الرحمانية بما يميزها من رجاحة في الرأي وحكمة في اللسان ولباقة في التفاوض، قد صنعت بشجاعتها وديبلوماسيتها وتوقيتها المناسب، فصلا من فصول التاريخ المغربي الذي لم يكن ليكتب لولاها، لتضيف بذلك حكايتها إلى سلسلة من الحكايات التي تحتفي بقصص نساء بنين مجد هذه المملكة العظيمة.