هي حكاية امرأة كانت مختلفة منذ نعومة أظافرها، كوردة جورية في حقول الياسمين، شقت مسارا لا يقوى عليه الكثيرون، وهي تختزن في فؤادها أحلاما عظيمة، في كل خطوة خطتها كانت تتجلى معالم مستقبلها، وحين بدأت الرؤية تتضح على بعد أميال من هدفها المنشود، امتدت إليها نيوب الشر من حيث لا تعلم واغتالت أحلامها.
ثريا الشاوي، هي امرأة سكن كيانها حب الطيران في الوقت الذي كانت فيه قريناتها ينجذبن للعب بالدمى، حملت الكثير من قيم “تمغربيت”، فكانت تتميز بالشجاعة والإقدام، كانت المرأة والمغربية الوحيدة في مدرسة الطيران بين معشر من الذكور الفرنسيين، رحلتها في الحياة لم تكن عادية بل كانت مليئة بالإثارة، ورغم اغتيالها من قبل الحاقدين، إلا أن قصتها ما تزال تتردد إلى حدود الآن، كأول ربانة طائرة مغاربية وإفريقية ستبقى خالدة في الذاكرة المغربية.
وثريا الشاوي هي من مواليد 14 دجنبر 1934 بحومة القلقيين بفاس، والدها هو عبد الواحد الشاوي، رائد النهضة الفنية في المغرب، ومن مؤسسي الحركة المسرحية المغربية، تنحدر ثرية الشاوي من عائلة فنية مثقفة، حيث كان والدها من رواد المغرب المثقفين، فكان حريصا على أن تتلقى ابنته التعليم، فيما كان شقيقها الأكبر ممثلا في فرنسا.
وكانت أسرة ثريا تحرص على تلقينها تعليما كاملا ومتكاملا، فكان يزورها أستاذ خاص في المنزل يعلمها القراءة والكتابة والأدب والعلوم، في فترة كان فيها تعليم النساء أمرا غير شائع بالمغرب.
كانت أول رائدة للحركة النسائية بالمغرب، حين ولجت مجالا كان حكرا على الرجال فقط، وشاركت في أول عمل فني لها رفقة والدها الذي كان يصطحبها في سفرياته، من خلال الفيلم الفرنسي “la septième porte”، لمخرجه أندريه زوبادا.
وبعد أن لامس فيها أبوها حبها الشديد لمجال الطيران، قرر أن يحقق حلمها بأن تصبح ربانة طائرة، وسجلها في مدرسة الطيران المتواجدة في “تيط مليل” بالدار البيضاء، لكن طلب تسجيلها قوبل بالسخرية والاستهزاء، كونها أول امرأة تتقدم بطلب للتسجيل في مدرسة فرنسية تسيرها القوات الجوية الفرنسية وجل طلابها فرنسيون وإسبان فقط.
انتقلت عائلتها إلى مدينة الدار البيضاء، كي تكون قريبة من ثريا خلال فترة تدريبها، خاصة وأنها كانت تبلغ من العمر آنذاك 15 سنة فقط.
بعد مرور سنة من التدريب في هذه المدرسة، اجتازت بكل تفوق امتحان قيادة الطائرة سنة 1951، في طقس سيء يتجنبه أغلب المبتدئين، لكنها بكفائتها العالية تمكنت من قطع مسافة 40 كيلومترا على ارتفاع 3000 متر فوق سطح الأرض في المنطقة بين مدينة الرباط والدار البيضاء.
فحققت ثريا بذلك حلمها، وحصلت على شهادة الكفاءة لقيادة الطائرات، لتصبح أول ربانة طائرة مغاربية وهي في سن السادسة عشر.
لم يمر حدث حصولها على شهادة الكفاءة لقيادة الطائرات مرورا عاديا، بل احتفلت به الصحف الوطنية والفرنسية، خاصة في فترة كان فيها عدد النساء اللواتي يقدن الطائرة معدودا، وتم الاحتفاء بها في بلدها إذ نظم النادي الجوي للأجنحة الشريفة حفلا على شرفها، كما تلقت التهاني من قبل مجموعة من الشخصيات المرموقة وطنيا، من قبيل محمد بن عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي، وتقاطرت عليها التبريكات من خارج المغرب، كان أبرزها تهنئة الاتحاد النسوي الجزائري، والتونسي، والربانة الفرنسية جاكلين أوريول، وملك تونس وملك ليبيا.
وكانت أبرز محطات الاحتفاء بثريا الشاوي، حين خصها الملك الراحل محمد الخامس باستقبال في قصره الملكي، رفقة الأميرة لالة عائشة ولالة مليكة، وهو ما يبرز فخر الملك بالأبناء البارين بالوطن الذين يحلقون برايته عاليا.
وذكر عبد الحق المريني، في كتابه عن الربانة ثريا الشاوي: ”أما المفاجأة التي كانت تنتظرها في الأندلس، فهي أنها ساعة كانت في مطار غرناطة تنتظر مع المنتظرين الطائرة التي ستقلها إلى تطوان، لاحظ كومندار المطار على صدرها شارة الطيران المغربي، ذي النجم الخماسي الجميل يزين بدلة لا يلبسها عادة إلا الطيارون. فاقترب منها وسألها عن الشعار. وكان كمندار مطار غرناطة يظن أن تلك البدلة، وتلك الشارة، مما يلبسها الاطفال تشبها بالطيارين، وأن ثريا وهي فتاة في السادسة عشر من عمرها، ارتدتها تشبها أيضا”.
وتابع الكاتب: “ولكن مفاجأته كانت كبيرة عندما علم أنها طيارة، وكانت مفاجأته أكبر عندما قالت له: إنها عربية مسلمة مغربية. سر بها الكومندار أيما سرور ودعا هيئة الطائرة التي ستقلها مع واحد وثلاثين من الركاب، وعرفهم بها. فكانت غبطتهم كبيرة ورحبوا بها قائلين أهلا بأختنا في الجو”.
“وبعد محادثة فنية طويلة حول دراستها، وما قامت به من تدريب”، يتابع المريني: “التفت الكومندار إلى رئيس هيأة الطائرة وطلب منه أن يسلم ثريا زمام الطائرة أثناء الرحلة من غرناطة إلى تطوان ودعت الآنسة المرحومة أبويها، ودخلت مقصورة القيادة وسألها الرئيس عن مختلف الآلات، واختصاصها وكان المكلف بميكانيك الطائرة يتقن الفرنسية، يتلقى من عامل الراديو الإشارات بالإسبانية ويترجمها لها بالفرنسية. ومرت الرحلة على أحسن ما يكون، ونزلت الآنسة بالطائرة نزولا ناجحا”.
وزاد بالقول: “وخرج الكومندار رئيس هيئة الطائرة، وقال لواحد وثلاثين من الركاب، من بينهم والد ثريا وأمها: ‘إن هذه الفتاة المغربية هي التي قادت بكم الطائرة، من غرناطة إلى تطوان، في زمن لا يقل عن خمسين دقيقة’. فلما خرج الركاب إلى ساحة المطار، التفوا حولها مهنئين معجبين، وطلب عمال الديوانة وبوليسها صورا مع الآنسة المغربية. وقدم كومندار الطائرة شهادة للآنسة بالرحلة التي قامت بها، تعرف عن نجاحها في قيادة طائرة ذات محركين”.
وأوردت بعض المراجع أن ثريا كانت قد شاركت في الاحتفالات المتعلقة بعودة محمد الخامس من المنفى، حين قادت طائرة من الحجم الصغير محلقة فوق مدينتي الدار البيضاء والرباط، وبعدها ذهبت إلى سويسرا قصد تلقي العلاج بعد معاناتها الطويلة مع مرض الرئتين.
وتشير نفس المراجع، إلى أنها بعد عودتها من سويسرا، قامت ثريا بتأسيس مدرسة الطيران العسكري المدني في المغرب، ووقع اختيارها على رمز الطيران المغربي، الذي ما يزال معتمَداً من طرف الخطوط الجوية المغربية إلى حد الآن.
وحين كانت في أوج بريقها، مدت إليها شرارة الحقد لتطفئ وهجها وهي لم تكمل ال20 ربيعا، استهدفت ثريا بمجموعة من المحاولات لاغتيالها لكنها باءت بالفشل، إلى أن تمكن منها الموت فترجلت عن صهوة الحياة، بعدما اخترقتها رصاصة وهي خارج منزلها، وذلك قبل يوم واحد من الإعلان عن استقلال المغرب في فاتح مارس 1956.
وهكذا، تكون ثريا الشاوي بأحلامها العظيمة وطموحها الجامح، قد خطت اسمها في صفحات التاريخ المغربي، وأرخت نفسها كأول ربانة مغاربية وإفريقية تقود الطائرة في سن 16 سنة، وحتى لو اغتالتها الأحقاد الفرنسية، إلا أنها ستبقى حاضرة في ذاكرة أبناء وطنها.